المصالحة و"الممثل الشرعي"- مقاربات جديدة للوضع الفلسطيني الراهن

المؤلف: عريب الرنتاوي09.24.2025
المصالحة و"الممثل الشرعي"- مقاربات جديدة للوضع الفلسطيني الراهن

لا يشترط في كل الأفكار والتساؤلات التي نطرحها أن تكون مبتكرة أو "خارج الصندوق" بالكامل. بعضها قد ينطلق من داخل الإطار المألوف، والبعض الآخر قد يتجاوزه. الأهم من ذلك هو أن حالة الجمود والتصلب المسيطرة على المشهد الفلسطيني الداخلي الراهن، والتي استمرت لما يقارب العقدين، تستدعي تبني مقاربات وآليات عمل جديدة ومختلفة. فليس من الرشاد أن تواصل القوى الفلسطينية المؤثرة، بفصائلها وشخصياتها ومجموعاتها ومؤسساتها، الرهان على تحقيق المستحيل أو "استخراج الزبدة من الماء". كما أنه ليس من المنطق تكرار نفس المسارات والأساليب مرارًا وتكرارًا، ثم انتظار نتائج مغايرة.

إن وضع نهاية لهذا الدوران العبثي في الحلقة المفرغة ذاتها، أصبح ضرورة حتمية، من أجل التصدي بكفاءة وفعالية لاستحقاقات المرحلة الاستراتيجية الجديدة التي تلوح في الأفق، والتي يبدو أن الفلسطينيين، شعبًا وقضية ومقاومة وحقوقًا، على وشك الدخول إليها.

لا يمكن حصر الموضوعات والقضايا التي تتطلب تفكيرًا عميقًا وإعادة نظر جذرية. في هذا المقال، سنختار اثنين من هذه الموضوعات، اللذين نعتقد أنهما "الأكثر أهمية" على الإطلاق، وذلك بصياغة تهدف إلى إثارة نقاش جاد ومستفيض حول مضامينهما، بعيدًا عن الانحيازات المسبقة، والاتهامات الجاهزة، و"روح التعصب القبلي المهلكة".

مصالحة أم "تجارة وهم"؟

سنبدأ بمسألة الدعوات المتكررة والملحة إلى الحوار والمصالحة بين الأطراف الفلسطينية المنقسمة على نفسها، و"ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي". فكلما اشتدت هذه الدعوات وتأكدت على ضرورة الحوار وإلحاحية المصالحة، ازدادت الفجوة اتساعًا بين المتخاصمين.

لقد ظهر أكثر من "دزينة" من المشاريع والمبادرات، في قرابة "دزينة" من المدن والعواصم، ولكنها تبخرت جميعًا وكأنها لم تكن. فتحولت "سياحة المصالحة" وصور الأيادي المتشابكة لفرسان الحوار في ختام اجتماعاتهم، إلى مصدر إزعاج وضجر للفلسطينيين، فما بالك بالتصريحات الدعائية المليئة بالأكاذيب التي لا قيمة لها، والتي سرعان ما تتلاشى قبل بزوغ فجر اليوم التالي.

إن أخطر التطورات التي شهدتها القضية الفلسطينية خلال العقدين الأخيرين، لم تكن سببًا كافيًا ومقنعًا لإنهاء الانقسام المرير. فلم تنجح الحروب المتتالية على غزة، ولا التوسع الاستيطاني المتسارع في الضفة الغربية، ولا الانتهاكات المتزايدة لحرمة المقدسات، وعلى رأسها المسجد الأقصى، في توحيد الصفوف. كما أن صفقة القرن المشؤومة، والاعتراف الأمريكي بسيادة إسرائيل على القدس، ولا الحرب الشرسة التي تشن على الشعب الفلسطيني، لم تكن دافعًا قويًا لنبذ الفرقة أو حتى لرفع شعار "الوحدة في الميدان".

لم تترك دولة عربية أو صديقة جهدًا إلا وبذلته في سبيل إقناع الأطراف الفلسطينية بتجاوز خلافاتها والاجتماع على "كلمة سواء"، وذلك بعد أن أدركت هذه الأطراف مدى عجز "القوة الدافعة المحلية" الشعبية والفصائلية عن إنجاز هذه المهمة. حتى الدول الكبرى التي لم تعرف بحيادها، تدخلت في هذا الملف، وشهدنا حوارات موسكو وإعلان بكين. ولكن مرة تلو المرة، استمر الانقسام، وغابت المصالحة، وتبددت آمال الوسطاء.

اليوم، وبعد مرور أكثر من خمسة عشر شهرًا على "طوفان الأقصى" و"حرب الإبادة"، لم تعد الوسائل والأدوات القديمة في التعامل مع ملف الانقسام مجدية على الإطلاق. فاليوم وغدًا، وبعد ما جرى ويجري في جنين ومخيمها، لم يعد مقبولًا ولا مستساغًا الاستمرار في ترديد نفس الشعارات والمناشدات، خاصة في ظل وضوح معالم طريق التكيف مع مخرجات الحل الإسرائيلي للقضية الفلسطينية، والسعي الحثيث لتقديم "أوراق اعتماد" للإدارة الأمريكية، ومحاولة اجتياز امتحان الجدارة للتأهل لليوم التالي للحرب على غزة، بدءًا من مخيم جنين.

في الوقت الحالي، يبدو الحديث عن المصالحة وحواراتها أقرب إلى "بيع الأوهام"، ومجرد فعل من أفعال التضليل والتعمية على خطورة ما يحدث، سواء عن قصد أو عن غير قصد في معظم الأحيان.

اليوم، لم يعد من المقبول "توزيع دم المصالحة على القبائل الفلسطينية"، فالقيادة الفلسطينية في رام الله تتحمل المسؤولية الكبرى عن الانقسام واستمراره وتعمقه، خاصة بعد أن أبدت فصائل المقاومة الفلسطينية "استماتة" في الدعوة والاستجابة لنداءات الوحدة والوفاق الوطني، في إطار المنظمة، وتحت مظلة السلطة. لذا، يجب تسمية المسؤولين عن إدامة الانقسام بأسمائهم.

وخلافًا لذلك، سنقع في المحظور، سواء بحسن نية أو بدافع الانتهازية المفرطة، أو ربما طلبًا للسلامة، ولا فرق في النتيجة.

صحيح أن حركة حماس قد تحملت قسطًا من وزر الانقسام في محطات سابقة، وبالذات في ذروة الربيع العربي، عندما اتجهت رهاناتها نحو تطورات وتحولات إقليمية مواتية، وغالبًا ما كان ذلك ضمن مقاربة لحركات الإسلام السياسي لا تعطي وزنًا جديًا لفكرة المشاركة. ولكن الصحيح أيضًا، أن القيادة المتنفذة في المنظمة والسلطة وحركة فتح، قد سدّت بإحكام جميع سبل الشراكة وأغلقت الأبواب في وجه حماس والجهاد وباقي فصائل المنظمة، بل وحتى في وجه قيادات فتحاوية مرموقة، لا ذنب لها سوى أنها تعتز بآرائها ووجهات نظرها.

واليوم، أكثر من أي وقت مضى، يتغذى هذا التعنت و"المقاطعة" بالتطورات الأخيرة المتسارعة في الإقليم، وتراجع مكانة ما كان يعرف بمحور المقاومة، والذي كانت المقاومة الفلسطينية تعتبر حلقة مركزية في سلسلته الممتدة من بحر قزوين إلى شرق البحر الأبيض المتوسط.

وعلى الرغم من النوايا الحسنة (أو السيئة)، فإن الدوران في حلقة الرهانات المفرغة على إنجاز المصالحة، قد أدى إلى نتيجتين ضارتين:

  • الأولى: هو انصراف الجهد الوطني الفردي والجماعي، الذي بذل في غير مكانه، عن الهدف الأسمى والمتمثل في التأسيس لحركة وطنية وشعبية فلسطينية جديدة، بديلة وناهضة، وذلك بعد أن جرى تضخيم أثر المصالحة ونتائجها، بل والتعامل معها بنوع من الخيال المفرط الذي لا يحتمل أي أصوات تنتقد هذا التوجه.
  • والثانية: هو تمكين القيادة المتنفذة في السلطة وحركة فتح والمنظمة من الحصول على "فترة سماح" ممتدة، يحاذر الجميع خلالها من تحميلها مسؤولية الانقسام، أو الخروج عليها، أو البحث عن بدائل لها، من داخلها أو من خارجها.

ولم يكن بمقدور هذه القيادة أن تذهب بعيدًا في تقويض سقف التوقعات الفلسطينية، وفي مسار التنسيق الأمني مع الاحتلال، وكبح جماح "غضب الضفة الغربية" بدءًا بالحرب على جنين ومخيمها، لولا الاستمرار في نشر الوهم بمصالحة وطنية منقذة ستحصل ذات يوم، وينقسم معها التاريخ الفلسطيني إلى ما قبلها وما بعدها.

"بقرة مقدسة"

أما القضية الثانية، التي أصبحت "بقرة الفلسطينيين المقدسة"، فتتجلى في حكاية "الممثل الشرعي الوحيد"، أي منظمة التحرير الفلسطينية، التي قيل عنها إنها "وطن الفلسطينيين إلى أن يتحرر وطنهم".

بمجرد أن تبدأ الحديث عن هذه القضية، ستنهال عليك الاتهامات بتقويض وحدة الشعب والكفاح والقضية والتمثيل، على الرغم من أن الجميع يعلم أن المنظمة لم يبق منها سوى "الاسم"، بعد أن تحولت إلى مجرد دائرة من دوائر السلطة، أو بالأحرى، أقل دوائرها أهمية. وأصبحت في قطيعة تامة مع شعبها في مختلف أماكن تواجده، قبل أوسلو، وبالأخص بعد قيام السلطة، وسط تواطؤ شاركت فيه أطراف قيادية في المنظمة وحكومات عربية ومراكز دولية، رأت في إحلال السلطة محل المنظمة أمرًا مقبولًا، واختزال الشعب الفلسطيني بسكان الضفة والقطاع، وإسقاط الشتات وأصحاب الأرض الأصليين خلف الخط الأخضر من الحسابات السياسية والكفاحية والقانونية.

لسنا بحاجة لمن يذكرنا بأن المنظمة، كممثل شرعي ووحيد، كانت مكسبًا كبيرًا للشعب الفلسطيني، ولا بكون عشرات الدول تعترف بها بصفتها هذه، ولا بكونها تجسيدًا لوحدة الشعب والأرض والقضية.

فقد دافعنا طويلاً عن هذا المكتسب، الذي لم يترك القائمون عليه مناسبة طيلة السنوات العشرين الماضية، أو أكثر، إلا واستغلوها لتفريغه من مضمونه الكفاحي والتمثيلي، إلى أن وصلنا إلى الحالة التي لا تستدعى فيها المنظمة إلا للتوقيع على أخطر القرارات والاتفاقيات إضرارًا بالأرض والشعب والقضية. ولم تكن أوسلو أول هذه المحطات المؤسفة، ولن تكون الخطوات والسياسات الكارثية للسلطة آخرها. لقد بدأ "المكسب الأهم لشعب فلسطيني" بالتحول إلى عبء عليه ومصدر تهديد لمشروعه الوطني. وهذه النتيجة واضحة للعيان، ما لم يتم تدارك ما يمكن تداركه.

لا داعي للدخول في صراع مع المنظمة على وحدانية التمثيل وشرعيته، فهي معركة خاسرة. ولكن ذلك لا يمنع، بل يوجب، التوجه بثبات وعزيمة لمنازعة المنظمة على ما كان يشكل يومًا قواعد ومنظمات شعبية واجتماعية، كانت الركيزة الأساسية لـ "الممثل الشرعي الوحيد".

لا حاجة لمنافسة المنظمة في المحافل الدولية والإقليمية، بقدر ما تشتد الحاجة إلى إثبات أن السلطة والمنظمة في وضعهما الحالي، لا تمثلان شعب فلسطين وتطلعاته وطموحاته، وأن "الشرعية" في واد، والشعب في واد آخر.

لا حاجة لتقديم طلبات الاعتراف بأي جسم فلسطيني جديد، بل يجب العمل على خلق مركز جذب وتمثيل، يجبر العالم على عدم الاكتفاء بزيارة "المقاطعة" عند الحديث في الشأن الفلسطيني.

هذا يحدث الآن على أية حال، فكل المفاوضات الجارية بشأن غزة وحولها، تكاد رام الله أن تكون خارجها، والدوحة خير شاهد على ذلك، إذ تحولت إلى وجهة للمسؤولين الذين يريدون التحدث مع المقاومة، مباشرة أو عبر طرف ثالث، وسط قناعة تامة بأن مركز ثقل القرار الفلسطيني، الآن وحول غزة، ليس في رام الله ولا في مقاطعتها.

وضع كهذا، قد يتسم بـ "الاستثناء" و"التأقيت"، وقد يتحول إلى وضع دائم. وفي الحالتين، يجب العمل على بلورة مركز ثقل وطني فلسطيني، لا يقتصر على المقاومة، ولا على غزة وجدل الحرب والتهدئة فيها وعليها.

يجب أن تتشكل جبهة وطنية فلسطينية واسعة، تضم الفصائل والمنظمات والشخصيات والمجموعات والجمعيات، لتشكل مركزًا ثانيًا، إن لم يكن أولًا، لصنع القرار الوطني الفلسطيني. وأن تبدأ في منافسة القيادة المتنفذة على الحضور والتمثيل، على أرض الواقع، إلى أن يحين وقت "تحرير منظمة التحرير" من أيدي خاطفيها، وبث روح جديدة في عروقها المتصلبة.

"ليس باسمنا"، هذا هو الشعار الذي يجب أن ترفعه كتلة فلسطينية وازنة، في كل مرة يصدر عن رام الله قرار أو إجراء أو موقف أو سياسة، تفوح منها رائحة التفريط أو التنازل يجب ممارسة "التعرض الحازم" للسلطة والمنظمة، من دون سلاح أو عنف، في كل مرة يتبين أنها تقوم بأدوار لصالح الاحتلال، في جنين أو غيرها، أو تمهد للتكيف مع مسارات مذلة، أو تتأهل لأدوار مشبوهة لا تخدم مصلحة الشعب وقضيته وكفاحه الوطني العادل والمشروع.

يجب على طلائع الشعب الفلسطيني، الوطنية والكفاحية، أن تتصدى لسيوف الابتزاز التي تشهر في وجهها وتوجه إلى أعناقها، في كل مرة تقرر فيها توحيد الصفوف وتجميع القوى، لإنقاذ مشروعها الوطني، أو تنظيم شعبها وتأطيره، أو منافسة "شرعية لا تحظى بشعبية"، والسعي دون تردد أو خجل لـ "إضفاء الشرعية" على ثقلها الشعبي، المدعوم بالتضحيات الجسام.

يجب أن تخرج هذه القوى والطلائع من دائرة الأدوات القديمة في التعامل مع "شرعية مختطفة"، لأن تحريرها واستعادتها، أصبح مقدمة ضرورية للتحرر الوطني العام.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة